الإتصال الطويل الذي دام قرابة الساعة ونصف الساعة بين الرئيس نبيه بري والموفد الأميركي آموس هوكشتاين شغل بالَ اللبنانيّين والفضوليّين من السياسيّين، الذين يتساءلون ويحلّلون عمّا دار بين الرجلَين، ليقرّر هوكشتاين القدوم إلى لبنان، في وقت كان الحديث يتفاعل عن سبب إرجاء مجيئه في انتظار حصوله على جواب من الجانب اللبناني!
المفاجأة أنّ هوكشتاين قرّر بعد تواصله مع بري العدول عن «المقاطعة» والتوجّه سريعاً وفي اليوم التالي إلى بيروت، ليُطرح السؤال: ما هي الضمانات التي قدّمها بري للرجل ليبدّل رأيه ويتوجّه إلى لبنان؟ علماً أنّ الأجواء النارية ميدانياً وسياسياً لم تؤشر إلى اقتراب الحل، خصوصاً أنّ الأجواء اللبنانية الرافضة لأبرز النقاط التي تضمّنها المقترح الأميركي الذي يُقال إنّ إسرائيل اطّلعت عليه ووافقت مسبقاً، إلّا أنّها في العلن دائمة الإعتراض، فهي غير واثقة من مضي لبنان في المقترح، بالإضافة إلى قولها إنّ المقترح يلزمه تفاوض وبعض التعديلات الثنائية بينها وبين الولايات المتحدة، كناية عن اتفاق يجيز لإسرائيل التحرّك براً وبحراً وجواً إذا شعرت بأي خطر يتهدّد أمنها، أو بأي إخفاق لقوات «اليونيفيل» أو الجيش اللبناني بعد انسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني إذا ما أُبرم الاتفاق.
أما أبرز النقاط العالقة، فهي تتعلق بمهمّات قوات «اليونيفيل» وبإضافة عناصر من جنسيات مختلفة اليها، فيما يرفض لبنان أي تعديل عليها، في وقت ترى إسرائيل أنّ قوات حفظ السلام الحالية وحتى الجيش لم يتمكنا من منع «حزب الله» من التسلّح بـ150 ألف صاروخ، ولذلك هي تطالب بإدخال عناصر من القوات الأميركية والفرنسية والألمانية والبريطانية إلى «اليونيفيل» لضمان أمنها وتأمين حماية مثالية لها في المستقبل.
والنقطة العالقة الأهم هي البند الذي يجيز لإسرائيل التدخّل جواً وبراً وبحراً في حال شعرت بخطر يتهدّد أمنها، وفي هذا البند استباحة فاضحة لسيادة لبنان.
حديث الساعتين؟
وبالعودة إلى «اتصال الساعتين» بين بري وهوكشتاين، وأمام هذا الواقع السلبي، يتساءل المحلّلون لماذا عدل هوكشتاين عن رأيه وجاء إلى بيروت؟
أوساط متابعة تلفت إلى موقفَين سابقَين مهمَّين صدرا عن الجانب الإيراني، الأول لوزير الخارجية عباس عراقجي، والثاني لرئيس البرلمان علي باقر قاليباف، والرجلان يُعتبران وسطيّين، لكنّهما أظهرا تشدّداً عندما رفض الزائر الأول للبنان الفصل بين المسارَين اللبناني والفلسطيني، فيما تطوّع الثاني للتفاوض باسم لبنان حول القرار 1701. وقارنت تلك الأوساط بين موقف الرجلَين وبين الموقف المتساهل الذي أدلى به مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي لاريجاني، مؤيّداً تنفيذ القرار 1701 وأي موقف تتخذه الدولة اللبنانية، مستغربةً هذه المشهدية المتناقضة! كيف أنّ المتساهل في إيران كان متشدّداً، وكيف أصبح المتشدّد في إيران في هذه المرحلة متساهلاً! ومتسائلةً: «إذا كان الموقف الإيراني الأخير ينسحب على موقف الرئيس بري الذي أراد من خلال دعوة هوكشتاين للقول بأنّه مع «حزب الله» ومن خلفه، موافقان على أي مقترح تخلص إليه الولايات المتحدة مع إسرائيل، لأنّ الأهم اليوم بالنسبة إليهم هو الخلاص ووقف إطلاق النار؟!
في السياق، تكشف مصادر غربية مطلعة «أنّ قرار وقف إطلاق النار ووضع حَدّ للحرب هو قرار أميركي بالدرجة الأولى وإسرائيلي بالدرجة الثانية»، لافتةً إلى أنّ الإدارة الأميركية التي عيّنها ترامب، تؤمن بحق «شعب الله المختار» ولديها ناحية إيمانية راسخة، وقد تسلّمت الآن سلطة مدنية.
لذلك ترى تلك المصادر، أنّ وقف إطلاق النار بوجود تلك الصقور صعب جداً، مرجّحة بأنّ المرحلة المقبلة ستشهد حروباً معقّدة... وتكشف أنّ المرحلة المقبلة من الممكن أن تشهد افتعال حروب لإيران من قِبل جيرانها أو البلدان المحيطة بها، لإلهائها واستنفاد قوّتها، وتحديداً مع جيرانها من «سنّة الغرب» أي باكستان وأفغانستان... وتضيف تلك المصادر، أنّه «لا يمكن لأي طرف عدم القبول بتطبيق قرار، لكن السؤال هل يمكن لأحد أن يستوعب أو أن يصدّق انسحاب إسرائيل خلال 7 أيام، وهي التي تتوغّل في الميدان اللبناني وتُثبِّت مدافعها في الجنوب؟ وماذا يمكن أن يتمّ تقديمه لإسرائيل حتى تنسحب خلال 7 أيام؟
أمّا التساؤل المطروح، فلماذا التداول بإيجابية المقترح، وبأنّ المفاوضات تسير بإيجابية والأجواء إيجابية، فيما كل المعطيات تؤشر إلى السلبية؟
هناك احتمالان: الأول أنّ بري يريد فعلاً وفوراً وقف إطلاق النار، وهو يقبل بكافة الشروط لأنّه و»حزب الله» يريدان الخلاص. أو أنّه مع مَن كلّفه، أي «حزب الله» ومن خلفه إيران، غير موافقين على المقترح!
أمّا دعوته لهوكشتاين إلى المجيء، فذلك للقول للولايات المتحدة وللمجتمع الدولي إنّنا لسنا المعرقلين بل إسرائيل، ولذلك سلّم لبنان جواباً إيجابياً للسفارة الأميركية.
في وقت، الجانب الإسرائيلي كعادته يراوغ، والدليل استمراره في استهداف لبنان وعاصمته وآثاره، غير مبالٍ بمبادرة هوكشتاين، وهذا ما صرّح به علناً بالقول بأنّه حتى لو وقّع اتفاقاً مع لبنان فهو لن يتوقف عن استكمال بنك أهدافه وبنية «حزب الله»! فإذا كان القول فعلاً ما نفع التفاوض على وقف إطلاق النار.
سرّ نتنياهو؟
من جهة أخرى، تساءلت بعض الأصوات المعارضة عمّا إذا كان توقيع أي اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان لا يستوجّب الخضوع لمناقشة في مجلس النواب وموافقة مجلس الوزراء! متسائلةً «ما إذا كان بري وميقاتي يمثلان وحدهما كافة الأطراف المعنية بالإتفاق التاريخي».
هذا من جهة لبنان، أمّا من جهة إسرائيل، فتعيش الحكومة مزاجية رئيسها المتوجّس من صواريخ «حزب الله»، والذي يقول مع وزرائه بعد استهداف تل أبيب أمس «إنّهم ما زالوا في حاجة إلى وقت للقضاء على تلك الصواريخ قبل توقيع أي اتفاق»، بالإضافة إلى فضيحة قاسية تردع نتنياهو عن القيام بأي مخاطرة لتوقيع أي اتفاقية هدنة تقوده في النهاية إلى المقصلة؛ إذ يتمّ التداول داخل إسرائيل برصد اتصالات سرّية تلقاها وتُعلمه بهجوم 7 أكتوبر، فإذا ما توقفت الحرب وفُتِح التحقيق وثبت تورّط نتنياهو فسيكون ملاحقاً بتهمة الخيانة الكبرى لدولة إسرائيل، وسيكون أمام مشكلة كبيرة مع نتنياهو الملاحق وليس نتنياهو رئيس الحكومة فقط، الذي سيفضّل حكماً عدم وقف إطلاق النار حتى لا يصل إلى يوم المحاسبة.
يبقى الميدان
أمّا وقف إطلاق النار فهو في النهاية، في رأي العارفين، رهن بحال الميدان. إذ يبدو أنّ العمل العسكري في تطوّر مضطرِد، فصواريخ «حزب الله» وصلت إلى تل أبيب، ومدافع اسرائيل وصلت إلى منطقة «شمع». فالإسرائيلي يستخدم مدفعية نشرها في الداخل اللبناني، وهو مؤشر إلى نياته بتطوير الهجوم. ومن المؤكّد أنّ التطور الميداني هو الذي سيكون سيّد الموقف وليس وقف إطلاق النار.